ابتلي العالم الإسلامي في الآونة الأخيرة بفتن كقطع الليل المظلم, كان سبب غالبها الغلو والتفسير الناقص للنصوص, فاستسهل بعض الناس قذف المسلمين بالبدعة والكفر والشرك والجهل في أمور خلافية قال بها أئمة المسلمين وعلماؤهم، ولم يعلم هؤلاء أن سر خلود الإسلام هو الاختلاف المحمود الذي دعا إليه الإسلام وتحلى به علماء الأمة منذ نشأة الحضارة الإسلامية.
إن الداء الأكبر الذي غذي به أصحاب هذه الفتن هو غياب آداب الحوار والاختلاف وضوابطهما التي تعصم من تصدر في دين الله من الغلو والقدح في الآخرين إن كان الحق هو المطلوب من خلافه وليس الانتصار لتعصب أعمى أو هوى بغيض, قال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) [القصص:50].
وقد وصف الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه الله- من يفرق بين جماعة المسلمين ويكفر ويفسق مخالفه في مسائل الآراء والاجتهادات بأنه من أهل التفرق والاختلاف, [مجموع الفتاوي 3/349], ويقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهدا أو مقلدا, [إعلام الموقعين 3/288].
لقد كانت سنة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الإسلام في الحوار بينهم استعمال العبارات اللطيفة والكلمات العذبة, لمعرفتهم أن ذلك يلين القلوب القاسية ويقرب الخصم المعاند, كما يقول سبحانه: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34], كما أمر بالقول الحسن بل الأحسن الذي يسد مداخل الشيطان الذي يغري بالعداوة والبغضاء والجفوة عن طريق الكلمة الخشنة والرد السيئ فقال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53]. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن سبابا ولا فاحشا ولا لعانا.
واتبع علماء الأمة هذا الهدي النبوي في خلافهم فنرى الإمام الذهبي يثني ثناء عطرا على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الخلاف ما هو معروف.
ولم يتبع علماء الأمة الظنون والأوهام في تخطئة الناس أو رميهم بالجهل والخيانة, بل نصوا على أن الأصل في عموم المسلمين الصدق والعدالة وحسن الظن بهم، وأن المسلم إذا قال شيئا فإنما يحمل على أحسن محاملة إن وجد إلى ذلك سبيل هذا في عموم الناس, فما بال علمائهم وعقلائهم إن قالوا شيئا, فالاحتياط في الاتهام هنا أولى, والتمهل للفهم أجدى, لأن هؤلاء إنما يتكلمون بمستند شرعي حتى ولو لم ينصوا عليه في كتبهم, وهذا هو الأصل وما عليه العمل في كتب الفقهاء عندما يذكرون المسائل الفقهية خالية من النصوص الدالة عليها.
وقد راعى أهل الحديث هذا أيضا, فلم يطعنوا أحدا في غير رواية, ونصوا على أنه لا يجوز ذكر المسلمين بصفاتهم المذمومة إلا في مقام الجرح, لضرورة الحفاظ على السنة قبل تدوينها, وأما خارج ذلك فالأدب الجم والخلق النبيل وبسط الوجه وعذر الجاهل.
ولم يكن من أخلاق علماء الحديث أو الفقه أن يسب أو يهين أو يحقر بعضهم بعضا, ولم يطعن أحد منهم عرض مخالفه, بل لم يكن ذلك يظهر في الحضارة العلمية الإسلامية إلا ممن يتشبهون بالعلماء وليسوا منهم, فهم يشغبون بالقول ليظن الجاهل أنهم من العلماء, ولو كانوا منهم لتلبسوا بأخلاقهم ولغة حوارهم واختلافهم كما يلبسون ثيابهم ويخادعون بعلومهم.
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم, وكل منهم يظن أنه يبغض لله, ثم يقول: وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون فيه مجتهدا مأجورا على اجتهاده فيه موضوعا عنه خطوة فيه, ولا يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في هذه الدرجة, لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله. وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق, فافهم هذا فإنه مهم عظيم, [جامع العلوم والحكم 1/330].
إن الهوى لم يكن مطية أحد من الصحابة رضوان الله عليه أجمعين أو تابعيهم أو علماء الأمة العظام في خلافاتهم, والخلافات التي أفرزت تلك الآداب لم يكن الدافع إليها غير تحري الحق, وكانت أخوة الإسلام بينهم أصلا من الأصول المهمة التي لا قيام للإسلام دونها, وهي فوق الخلاف أو الوفاق في المسائل الاجتهادية.
نشأ التصوف ليضع أتباعه في خضم الأحداث الاجتماعية والسياسية في المجتمع الإسلامي لا ليكونوا في معزل عن تلك الأحداث, بل عمل على إعدادهم ليكونوا في خدمة الدين والأمة والوطن.
فلم يقف التصوف ولا الصوفية عند حالة الذكر والزهد والتعبد الفردي أو الجماعي, بل أصبح للتصوف مؤسسات كبيرة لها امتداد في العالم أجمع, وصارت تقوم بدور تنموي وسياسي واجتماعي; فقد أفرزت الصوفية على مر العصور علماء ورجالا وقامات يزخر ويزدهر التاريخ الإسلامي بهم استنادا إلى شعبيتهم الجارفة, وحب جماهير المسلمين لهم, وما وصلوا إلى هذه المكانة وتلك المرتبة إلا بحسن التأسي والسلوك على المنهج القويم الثابت عن الكتاب والسنة واحترام علماء الأمة والسعي إلى وحدة المسلمين وابتغاء تماسكهم, ولذا لم يقتصروا على جهاد النفس فحسب كما يردد من لا يعرفهم, ولكنهم جمعوا إلى ذلك القوة في محاربة الأعداء والطغاة, ومن نماذج هؤلاء الإمام الغزالي ومحيي الدين بن عربي والعز بن عبد السلام والإمام النووي, وفي العهد غير البعيد حمل الصوفية لواء الثورة الوطنية في مصر في مواجهة أمراء المماليك, حيث قاد الإمام الدردير الصوفي الكبير ثورة كبيرة ضد المماليك قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات, أجبرت المماليك على الاعتراف بأن الأمة مصدر السلطات، ومنعتهم من فرض ضرائب جديدة إلا برأي الشعب, مع الإقرار الكامل بحرية الأمة وكرامتها.
وللتصوف أصول وضوابط كبرى هي: التمسك بكتاب الله, والاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وأكل الحلال, وكف الأذى, واجتناب المعاصي, والتوبة، وأداء الحقوق, فالتصوف إنما يكون بالصبر على الأوامر واليقين في الهداية، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24], وقد نص الصوفية على أنه: لا يصلح للتصدر في طريق الصوفية إلا من تبحر في علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها, وتبحر في لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك, وهو ما حكاه العارف بالله عبد الوهاب الشعراني في مقدمة كتابه الطبقات الكبرى (الطبقات ص5), وقال كذلك: إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر, فيحتاج سالكها إلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون (لطائف المنن والأخلاق 1/2).
وقد نشأت الصوفية في مصر على أساس من الوسطية والاعتدال, وقد صاحبها إنشاء أول خانقاه في مصر في عصر الناصر صلاح الدين الأيوبي, وانتشرت من بعدها الخانقاوات والمدارس الصوفية في ربوع مصر فعملت على إعداد المريدين والطلاب إعدادا نفسيا وتربويا وأخلاقيا لمواجهة المخاطر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع المسلم بين فترة وأخرى.
وتمسكا بالمبدأ الوسطي الذي قام عليه الإسلام, كانت الصوفية في مصر بعيدة عن الغلو, وتتميز بالاعتـدال وتنأى عن الشطط, فقد كانت الطرق الصوفية المصرية يجمعها طابع خاص هو العناية بالجانب العلمي والخلقي.
ومع ما كان للتصوف في مصر من حياة روحية خاصة, فقد كان له تأثيره الخاص على العديد من مظاهر الحياة المحيطة به, وكان ذلك داعيا إلى الاعتماد عليه في الدعوة إلى الله ورسوله, وهو ما ساعد الصوفية بقوة في تشكيل الهوية الدينية الوسطية في مصر, وكان سبيلها في ذلك بساطة العرض الذي تقوم به وسهولة الانضواء تحت لوائها في ظل الخطوب التي تعرضت لها مصر خلال الفترات المختلفة, حيث كانت التكايا والزوايا والخانقاوات ملاذا آمنا للمظلومين والفقراء والضعفاء, وغدت تلك المراكز نبراسا دينيا حضاريا يتخرج فيه المسلم العامل بكتاب الله وسنة رسوله ليجاهد في سبيل وطنه ودينه, ومن ثم شكلت الصوفية جل الحالة الدينية في مصر التي اتسمت بالبعد عن الغلو والتشدد.
وقد ارتبط التصوف بحب آل البيت وإقامة الموالد وحلقات الذكر, مما ساعد على جذب المريدين إلى محبة المساجد وآل البيت, وهو الأمر الذي أسهم في بلورة الإسلام الوسطي وتشكيل الهوية الدينية, وهذه المحبة لا يشترك فيها الصوفية والشيعة فقط, بل إن المسلمين جميعا سنة وشيعة يشتركون في محبتهم لآل البيت رضي الله عنهم.
لقد كانت الصوفية -وما زالت- عاملا فاعلا وأصيلا في المجتمع الإسلامي في مصر, وهو ما يدعو الطرق الصوفية في كل زمان إلى الالتفاف حول أصول التصوف والتمسك بها, والعودة إلى دورها الرائد في الدعوة إلى الله وقيادة المجتمع دينيا واجتماعيا وسياسيا, كما كانت طوال تاريخها في مصر, ولا يضيرها ظهور بعض الفئات من المتواكلين والجهلة الذين يتكسبون من وراء ادعائهم الصوفية والانتساب إليها, فطريق التصوف جلي قوي لا يحيد عن صراط الله المستقيم رغم تهجم المتهجمين واتهام المغرضين.
إن الشباب هم عماد أي أمة من الأمم, وسر نهضتها وبناة حضارتها, وهم حماة الأوطان والمدافعون عن حياضها, ذلك لأن مرحلة الشباب هي مرحلة النشاط والطاقة والعطاء المتدفق، فهم بما يتمتعون به من قوة عقلية وبدنية ونفسية فائقة يحملون لواء الدفاع عن الوطن حال الحرب, ويسعون في البناء والتنمية في أثناء السلم, وذلك لقدرتهم على التكيف مع مستجدات الأمور ومستحدثات الخطوب في مختلف المجالات العلمية والسياسية والاجتماعية, فالمرونة مع الإرادة القوية والعزيمة الصلبة والمثابرة من أبرز خصائص مرحلة الشباب, لذا وصف الله عز وجل هذه المرحلة المتوسطة بالقوة بعد الضعف وقبله, قال سبحانه وتعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) [الروم:54]
لذلك اعتنى الإسلام بالشباب عناية فائقة ووجههم توجيها سديدا نحو البناء والنماء والخير, واهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالشباب اهتماما كبيرا، فقد كانوا الفئة الأكثر التي وقفت بجانبه في بداية الدعوة فأيدوه ونصروه ونشروا دعوة الإسلام وتحملوا في سبيل ذلك المشاق والأهوال.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بنظرته الفاحصة وحكمته البالغة وضع الشباب منذ اللحظة الأولى في موضعهم اللائق بهم ليكونوا العامل الرئيسي في بناء كيان الإسلام وتبليغ دعوته ونشر نوره في بقاع العالم, فعمل عليه الصلاة والسلام على تهذيب أخلاقهم وشحذ هممهم وتوجيه طاقاتهم وإعدادهم لتحمل المسئولية في قيادة الأمة, كما حفزهم على العمل والعبادة, فقال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وعد منهم شاب نشأ في عبادة الله» (البخاري 1/234).
وفي الوقت ذاته حث الرسول صلى الله عليه وسلم الشباب على أن يكونوا أقوياء في العقيدة, أقوياء في البنيان, أقوياء في العمل, فقال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» (صحيح مسلم 4/2052), غير أنه نوه إلى أن القوة ليست بقوة البنيان فقط, ولكنها قوة امتلاك النفس والتحكم في طبائعها, فقال: «ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (البخاري 5/2267).
وبهذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعداد الشباب وبناء شخصيتهم القوية, ليكون الشباب مهيأ لحمل الرسالة, وأقدر على تحمل المسئولية, وأكثر التزاما بمبادئ الإسلام.
ومن ناحية التطبيق فلا أحد ينكر موقع الشباب في صدر الإسلام, فهم من ساندوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة, وانتشر الإسلام على يد هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى, حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائما ما يستشيرهم في الأمور المهمة وكان ينزل على رأيهم كثيرا، ومن ذلك أنه نزل على رأي الشباب في الخروج لملاقاة المشركين في غزوة أحد، وكان رأي الشيوخ التحصن داخل المدينة.
ومن عظم دور الشباب في بناء كيان الدعوة, وصف المستشرق البريطاني مونتجمري وات في كتابه (محمد في مكة) الإسلام بأنه كان في الأساس حركة شباب ففي البداية أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة في دار أحد الشباب وهو الأرقم بن أبي الأرقم, ولأن الدعوة تعتمد على النقل كان الشباب هم نقلتها إلى أهل مكة ومن حولها, ولا ننسى دور سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الهجرة, فكم كان دوره فيها وأداؤه المهمة التي كلف بها كبيرا عظيما.
ومن اعتماده على الشباب أنه أمّر أبا عبد الله الثقفي الطائفي على وفد قومه -وفد ثقيف- لما رأى من عقله وحرصه على الخير والدين رغم أنه كان أصغرهم سنا. (سير أعلام النبلاء 2/374).
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على منهج الرسول عليه الصلاة والسلام في الاهتمام بالشباب, فعندما أراد سيدنا أبو بكر الصديق جمع القرآن كلف زيد بن ثابت بهذه المهمة وهذا العمل الجليل, يقول الإمام الزهري: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم, فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان واستشارهم يبتغي حدة عقولهم» (جامع بيان العلم وفضله 1/85).
إن تاريخ الأمة الإسلامية زاخر بهذه النماذج الرائعة التي لا تعد ولا تحصى من شباب الأمة في جميع مناحي الحياة, وعلى شباب اليوم أن يستلهموا القدوة من خلال هذه النماذج لإعادة بناء الأمة وبناء حضارة قوية عريقة تستمد شرعيتها من نبراس ديننا الإسلامي الحنيف, وعلى الشباب أن يستثمروا ما وهبهم الله من قدرات كبيرة وطاقات هائلة في دفع عجلة التنمية والارتقاء بالأمة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى مصاف الدول الكبرى، ليعود لهذه الأمة مجدها التليد الذي شيده الشباب بسواعدهم وكفاحهم.
تمثل سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا أرضا خصبة للتأمل وأخذ الأسوة في معالجة الأمور وإدارة جميع ما يعن لنا من مصاعب وخطوب, فقد كانت له عليه السلام طريقة فريدة في إدارة الأزمات وفق حكمة سديدة، فقد كان عليه السلام بفطنته ينهي منازع الخلاف بشكل قاطع, مع حماية المجتمع الإسلامي من آثار الأزمة, بل يعمل على الاستفادة من الموقف الناتج عن الأزمة في الإصلاح والتطوير, واتخاذ إجراءات الوقاية لمنع تكرار الأزمة أو حدوث أزمات مشابهة لها. وإنك لتري آثار هذه الحكمة في تلك المعالجات في السيرة النبوية الشريفة قبل البعثة وبعدها فمن ذلك أنه قبل البعثة أعادت قريش بناء الكعبة علي أساس قواعد إبراهيم عليه السلام حتى بلغ البنيان موضع الركن فأرادت كل قبيلة أن ترفع الحجر الأسود إلى موضعه دون الأخرى، فاختصموا وأوشكوا على الاقتتال, ولما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر, قال: هلم إلي ثوبا, فأتي به, فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده الشريفة ثم بنى عليه (سيرة ابن هشام 1/182).
بهذا التفكير السليم والرأي الصائب حسم صلى الله عليه وسلم الخلاف بين قبائل مكة, وأرضاهم جميعا, وجنب بلده وقومه حربا ضروسا شحذت كل قبيلة فيها أسنتها.
وبعد بعثته صلى الله عليه وسلم, واجه المسلمون الكثير من الأزمات المختلفة الأشكال, بين تعذيب لكل من أسلم, وحصار في شعب أبي طالب, ثم بعد الهجرة أخذت المواجهات بين المسلمين والكفار اتجاها أشد ضراوة من مثل ما صوره القرآن في واقعة الأحزاب, قال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11].
وعندما عرف أعداء الإسلام بعد الحروب الطويلة مع المسلمين أن القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن بطريق استخدام السلاح, قرروا أن يشنوا حربا دعائية واسعة ضد هذا الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد, وأن يجعلوا شخصية الرسول أول هدف لهذه الدعاية, وذلك من خلال المنافقين من سكان المدينة, فكانوا يستفزون المسلمين ويمارسون حربا نفسية معهم, حتى طالت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فيما كذبوا عليه في حادثة الإفك.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع الإمساك بزمام هذه الصعاب والوصول بالمسلمين إلى بر الأمان بحكمته وإدارته الواعية لتلك الشدائد, من حيث إدراك الواقع على ما هو عليه, والحكمة في معالجة الأمور, واعتبار المقاصد والمآلات, والاستفادة من الأزمة لما بعدها, والعمل على عدم تكرارها, وكسب أرض جديدة منها, حتى تكون المحنة منحة.
ومما عاناه المسلمون كذلك من المرجفين وأصحاب الأهواء والمصالح الضيقة في المدينة, وكان سبيل الخلاص من كل ذلك حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم.. حينما بلغه قول عبد الله بن أبي بن سلول في حق المسلمين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقتله, فقال له رسول الله: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟! (أخرجه البخاري 6/154) وجاء في رواية: فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم, فأمر أن يؤذن في الناس بالرحيل ليشتغل بعضهم عن بعض (أخرجه عمر بن شيبة في تاريخ المدينة 1/274).
فهنا ظهرت حكمته صلى الله عليه وسلم في معالجة الفتنة وإخماد نيرانها قبل أن تشتعل, حيث وجههم إلى الرفق واللين, من أجل أن يخمد الشر قبل أن ينتشر كالنار في الهشيم, ثم أمر أصحابه بالرحيل في وقت ليس من عادته الرحيل فيه، ليشغلهم بالترحال عن حديث الفتنة فيئدها في مهدها.
بهذا النظر يجب أن نتحلى بشيء من حكمته صلى الله عليه وسلم في إدارة الأزمات وحل المعضلات, ونعلم أنه ليس لنا مخرج أو سبيل للخروج من كل ذلك إلا بالامتثال والتحقق بما أمرنا الله تعالى به في حقه صلى الله عليه وسلم، حيث قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21] فإذا فعلنا ذلك كان نبراسا لنا يهدينا سواء الصراط نحو مستقبل مشرق للأمة العربية والإسلامية التي تحاصرها الأزمات وتعتصرها الملمات في وقت حرج تزداد فيه المشكلات من كل حدب وصوب، وتتكالب فيه الشرور علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها.
جبلت النفس البشرية على التطلع للمستقبل, والطموح إلى المراتب الأعلى دائما, وهو ما حدا بالبعض إلى الجموح لتحقيق أهدافه وأحلامه, مستندا إلى مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة دون نظر إلى ما تمثله تلك الوسيلة من خير أو شر, وهو أمر شديد الخطورة, يؤثر بالسلب على الفرد والمجتمع.
والطموح هو السعي باتجاه الوصول إلى أعلى الأهداف, وحتى يصل الإنسان إلى ما تطمح إليه نفسه في ظل الالتزام بالمبادئ التي قررها الإسلام يجب أن يكون لديه الدافع المحاط بالأخلاق التي حددها القرآن الكريم والسنة النبوية، وإلا أصبح الطموح جموحا يوشك أن يودي بصاحبه ويدمره.
ولقد أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطموح الصحيح في أسمى صوره، وزرع فينا حب التميز والتفوق والحصول على أسمى المراتب في كل مكان نعمل فيه, فالتواضع والزهد في الدنيا -اللذان دعا إليهما الإسلام- لا يعنيان أبدا أن يقبل المسلم الحد الأدنى أو ينزوي وراء الآخرين ويكون في ذيلهم، ولذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمل لبلوغ الغاية والهدف الأسمى لكل مسلم فقال: «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى, فإنه سر الجنة» (المعجم الكبير للطبراني 4/31), كذلك علمنا أن نعظم من رغباتنا عند الدعاء, فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت, ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة, فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» (مسلم 8/46).
والإسلام -كما دعا إلى الطموح لنيل المنزلة العليا في ظل مبادئه السامية- جاء أيضا ليهذب النفس البشرية عن جموحها ويقوم سلوكها ويهديها سبيل الرشاد, فالنفس مائلة بطبعها إلى التوجه إللا السيئ, كما أكد القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) [يوسف:35], وهي غالبا ما تتبع الهوى بغية إشباع رغباته, ومن هنا جاء الإسلام ليعلمنا كيف نكبح جماح تلك النفس حتى تستكين وتعود إلى جادة الصراط المستقيم, وسبيل ذلك تربية النفس على طاعة الله ورسوله في كل شيء, قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) [آل عمران:31-32]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) [الأنفال:20].
لقد وازن الإسلام بين الواجبات التي فرضها على المسلم وبين ما تطمح إليه نفسه البشرية, فعمل على ألا تكون فروض الدين شاغله أمره كله وداعية لترك دنياه, بل أمره بالجد والسعي في طلب الرزق وإعمار الأرض, قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10], وقال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص:77], وعن حنظلة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار, ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولا عبت المرأة, فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر. فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله نافق حنظلة فقال: «مه». فحدثته بالحديث, فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل فقال: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم, ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» (أخرجه مسلم 8/49), ومن ذلك ما قاله عبد الله بن عمرو بن العاص: احرز لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا (مسند الحارث 2/983).
فالاستغراق في المأمول بلا حدود هو الطموح الزائد الذي ينقلب إلى جموح، وهو أمر مرفوض في الإسلام, قال الله عز وجل: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء:73], أما إذا أعاد الإنسان ضبط هذا المأمول في إطار المشروع, وفي إطار ما أحله الله وأباحه ودون الخروج عن الهدي النبوي الكريم, وبما لا يخالف النظام العام, فسوف يصل إلى هدفه ويحقق طموحه الذي يأمله دون منغصات أو وخز ضمير أو نظرات مستهجنة من البشر حوله, ويكون بهذا قد حقق التوازن والاتساق بين ما تطمح إليه نفسه وبين ما يأمره به ربه, والإنسان المسلم حين يحقق هذا التصالح مع ذاته ونفسه يصل إلى التسامح والتصالح مع الآخرين من حوله, فيعيش المجتمع المسلم في طمأنينة واستقرار, لأن كل فرد فيه يعمل على جلب النفع ودفع الضر, سواء لنفسه أو لغيره, تحت قاعدة: المسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ومن ثم كان سبيل المسلمين لا إفراط فيه ولا تفريط.
لقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تختلف آراء الناس في صغير الأمور وكبيرها, وذلك لأنه عز وجل خلقهم مختلفين في العلم والفهم, وفي الأمزجة والميول والرغبات والتوجهات, وغالبا ما يؤدي اختلاف الناس إلى حدوث الخصام والنزاع بين أفراد المجتمع أو بين جماعاته بجميع فئاتهم, وهذا أمر طبيعي وسنة إلهية مشاهدة, قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119].
وأسباب هذا الخلاف والنزاع كثيرة لا حصر لها, ولكن غالبا ما تكون هذه الخلافات في بداياتها اختلافات سهلة يسيرة يمكن تلافيها لو أحسن الناس التصرف وراعوا حق إخوانهم واتبعوا أوامر الله سبحانه, ولكن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والهوى المتبع وأهل الإفساد والشر والنميمة كل هذا يكون له كبير الأثر في إيقاع البغضاء بين الناس وإذكاء نار العداوة حتى تتحول الشرارة إلى فتنة عظيمة وشر مستطير له عواقبه الوخيمة, فيقع الإثم وتحل القطيعة ويتفرق الشمل, بل تهتك الأعراض وتسفك الدماء وتنتهك الحرمات, وتفسد ذات البين وتقع الحالقة التي تحلق الدين, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا بلي. قال: «إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة, لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» (سنن الترمذي 4/663).
ولم يترك الله تعالى الناس هملا يتمادون في هذه النزاعات, بل شرع لهم طريقا إلى منعها, وهو اتباع سبيل إصلاح ذات البين, يقول الله عز وجل: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114] وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
وإصلاح ذات البين هو السعي والتوسط بين المتخاصمين لأجل رفع الخصومة والاختلاف عن طريق التراضي والمسالمة تجنبا لحدوث البغضاء والتشاحن وإيراث الضغائن, ويكون السعي بين الناس بغرض الإصلاح بأن ينمي الساعي خيرا ويقول خيرا.
وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على وحدة المسلمين وأكد على إخوانهم وأمر على أن الصلح بين المتخاصمين من أفضل الأعمال, فقال: «ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن» (شعب الإيمان 12/429), بل باشر صلى الله عليه وسلم بنفسه حين تنازع أهل قباء فندب أصحابه وقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» (البخاري 3/183), وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي من يوليه ويقول: «ردوا الخصوم حتى يصطلحون فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن» (سنن البيهقي 6/109), والسلف رحمهم الله كانوا حريصين على هذا الخير ساعين فيه, يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: ما من خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، وكان الرجال العظام والمشايخ وأصحاب الجاه في السابق من أفراد كل قرية يندبون أنفسهم لهذا العمل ويعتبرونه من تمام الشرف والعز.
ولم يقتصر الصلح على المسلمين فيما بينهم, بل شمل أبناء الوطن الواحد ولو كانوا غير مسلمين, اقتداء بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم, حين باع ليهودي تمرا بثمن معلوم على أن يسلمه له بعد مدة, فاستعجل اليهودي التمر قبل حلول الأجل, وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق, حتى هم عمر بن الخطاب بإيذائه, فخاف الرجل, وقال النبي لعمر: «أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج, أن تأمرني بحسن الأداء, وتأمره بحسن التباعة, اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما روعته» (سنن البيهقي 6/86).
وفي هذا الزمان تتأكد أهمية السعي لإصلاح ذات البين الذين كان وظيفة الأنبياء والعلماء والصالحين, والذي كان عادة للمشايخ وكبار القوم, وكان هدفا ومقصدا لكل صالح مصلح محب للخير بين الناس, ومريد لجلب المودة والتآلف بين القلوب.
إن الله عز وجل شرع في دينه من الأحكام ما يؤدي إلى تماسك المجتمع, وندب إليها, وسن رسول صلى الله عليه وسلم ما يزيل الضرر عن الفرد والمجتمع, وحث المسلمين على التمسك بوحدة مجتمعهم, وأكد أن الطريق إلى ذلك التماسك بين فئات المجتمع المختلفة هو اتباع السبل التي ندب إليها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, ومن أهمها السعي بالإصلاح بين الناس, مع إخلاص النية وإيكال الأمر إلى الله تعالى والتيقن من أن التوفيق بيده (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
جاء الإسلام منظما لحياة البشر, مؤكدا على ضرورة الترتيب بين الأشياء بحسب أولويتها وأهميتها بالنسبة للفرد المسلم وللأمة المسلمة, قال تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر:55], وقال أيضا: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة:19]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردا على سؤال حول أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر, (سنن النسائي 7/161).
إن تنظيم حياة الإنسان أولاه الإسلام أهمية كبرى ينصب في صالح الإنسان مقدم على البنيان, كما أن مقاصد الشريعة تحث على أولوية الحفاظ على الإنسان وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال, لذا فترتيب الأولويات من أهم العوامل التي تعمل على حفاظ الإنسان.
ولكن في أغلب الأحيان نجد أن كثيرا من المسلمين يتناولون مسائل فرعية ثانوية لا تغني ولا تسمن من جوع, فانشغلوا بالحديث عن المكروهات والمندوبات وقضايا كثر فيها خلاف الفقهاء, لاهين عن انتشار المحرمات وضياع الفروض والواجبات, وفي هذا يقول الإمام الغزالي: وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض, ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل, ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء الفرائض» مؤكدا أن ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور وواصفا من لم يحفظ الترتيب في ذلك بأنه مغرور (إحياء علوم الدين 3/29)، وهذه الخلافات على النوافل والمندوبات والمبالغة والإسراف في الشكليات والمظاهر في مجالات الحياة اليومية تؤدي إلى ضياع المقاصد والمعاني وضياع الجهد والوقت وتوسيع دائرة الخلافات بين المسلمين, وهو أمر يخالف تعاليم الشريعة, قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال:46].
وهم بذلك انشغلوا عن تحقيق الأمر الإلهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي هذا يتحقق قول ربنا سبحانه وتعالى في ذم بني إسرائيل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].
إن اختلال الموازين هذا عالجته الشريعة من خلال الحث على الفهم الصحيح للواقع المعيش وإدراك المقاصد الكلية والأهداف الرئيسة من التعاليم والمبادئ التي أقرتها الشريعة, فإدراك الواقع وفهمه حري بأن يؤدي إلى استنتاجات واضحة, ونتائج سليمة, وحكم صحيح, وفي ذلك يقول ابن القيم حول الحاكم والمفتي: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما, والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع, (إعلام الموقعين 1/88).
فالمسلم مطالب بالسعي نحو الأفضل والأكمل وتقديم الأولى وتحصيل المصالح دون المفاسد, وهو بذلك مطالب ببذل قصارى جهده لتحقيق الأولى في كل ما يقوم به من أعمال دنيوية وأخروية, بل حث الإسلام على ضرورة الوصول إلى الكمال أو بذل الجهد في الوصول إليه.
كما أن بعضا من المسلمين أساءوا التقدير في تقديم المصالح والمفاسد, حيث يغيب عنهم فقه الواقع والقدرة على استنباط الأحكام التي تتناسب وتطورات العصر ومعطياته التي تنبثق عنها قضايا مصيرية وملحة تقتضي وحدة المسلمين والتفاتهم لمواجهتها والعمل على حلها.
إن الاهتمام بالقضايا الكبرى التي تهم الأمة الإسلامية في العصر الحديث واجب علماء الأمة ومفكريها وأولي الأمر فيها, فالاهتمام بالبحث العلمي، وتطوير التعليم, وتنمية الاقتصاد القومي للبلاد, وتفعيل المشاركة الإيجابية في العمل الوطني بين شرائح المجتمع المختلفة, أولى من تكرار حج وعمرة أو بناء مسجد بجوار مسجد, كما أن المساهمة في المشاريع الخيرية وعلاج المرضى ورعاية الأيتام وإيجاد أعمال لمن لا عمل لهم أولى من إنفاق الأموال الطائلة في مظاهر وشكليات لا فائدة منها.
نواجه كل عام اعتراضا مستمرا لعدم وحدة البلاد الإسلامية, أو العربية على الأقل, في رؤية هلال رمضان وشوال, ولما اتحدت الدول في الإفطار هذا العام, صدق المعترضون كل عام كلاما لبعض الهواة غير المتخصصين حيث رأوا أن الهلال يتعذر رؤيته, فلما رأته اللجان العلمية الشرعية في عدة دول لم يعجب هذا الاتحاد من يريد أن يكون معترضا دائما, وأتذكر أن حادثة حدثت سببت بعض الجرحى منذ سنوات, فلما سئل أحد المصابين عن اسمه ووظيفته, قال: إني معترض, وظن السائل أنه لم يسمع السؤال الذي كان مدخلا لمواساته والاطمئنان على صحته, فأعاد السؤال فأعاد المصاب الإجابة: إني معترض, فهذا اسمه وهذه وظيفته (معترض), ونحن أمام سؤالين منهجيين لتحليل الظاهرة:
السؤال الأول: لم يفعل هؤلاء هذا فيسيرون وراء الخبر ولا يسيرون وراء العلم؟! وهذا المنهج ابتداء يخالف الهدي الرباني الذي يقول: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل:43].
والسؤال الثاني: لماذا يتبع هؤلاء وهم يدعون إلى العقلية العلمية, عقلية الخرافة ويقدمونها عند أول إثارة على الإنارة؟!
هيا بنا ننظر ما يحدث في الواقع, ونتفهم نفسية هؤلاء:
يجتمع القمر مع الشمس في نقطة التقاء في السماء, فكل منهما يأتينا من الشرق, وفي آخر الشهر يجتمعان, ثم يفترقان, ويسير كل واحد منهما في طريقه، وعند ذلك يسمي علماء الفلك هذا الافتراق: أن الهلال قد ولد, ومعنى هذا أنه إذا لم يتم الاجتماع ثم الافتراق لا يولد الهلال, وقد ولد هلال شوال في عموم مصر تقريبا الساعة الخامسة صباح يوم الاثنين 29 أغسطس2011 (ويختلف باختلاف خطوط العرض).
يمكن للهلال أن يغرب قبل غروب الشمس فتستحيل رؤيته, أو مع الشمس فتستحيل رؤيته أيضا, أو بعد الشمس فيمكن رؤيته إما بسهولة أو بصعوبة, والهلال في مصر غرب هذا العام بعد غروب الشمس بثلاث دقائق أو أكثر.
قرر مجمع البحوث الإسلامية سنة 1964م أن الهلال إذا غاب قبل غروب الشمس أو معها, وجاء من يدعي رؤيته, ردت شهادته ولم تقبل لأنه بذلك قد خالف الحساب الفلكي, أما إذا ادعى رؤيته والحسابات الفلكية تؤكد أن الهلال سيمكث بعد غروب الشمس صدقناه, وأقر هذا المعنى مؤتمرات مجمع الفقه الإسلامي في إسطنبول وجدة وقطر وماليزيا والأردن وغيرها.
في سنتنا هذه (1432هـ) أثبت الدليل الفلكي الصادر من المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية التابع لوزارة البحث العلمي بجمهورية مصر العربية، وكذلك المساحة المصرية في تقويم جمهورية مصر العربية لسنة 2011م الموافق شوال 1432هـ بقاء الهلال بعد غروب الشمس, وأكد هذا الباحث الفلكي عبد الكريم محمد نصر الشامي في سوريا في تقويم بالحساب الفلكي والشرعي ونص كلامه: الرباط والقدس والرياض وصنعاء وأبو ظبي ومسقط وطهران أول شوال 30 آب ( أغسطس).
وقد جاءت قرارات المجامع الفقهية والمؤتمرات العلمية بضرورة توحيد الرؤية في كل بلد مشترك معنا في جزء من الليل.
ولقد قررت دار الإفتاء المصرية منذ سنة 1961م إرسال بعثات لها تتكون من فلكيين وشرعيين, تتكون البعثة الواحدة ما بين خمسة وستة أفراد إلى أماكن مختلفة عددها تسعة في أنحاء الجمهورية, بهدف رؤية الهلال في كل شهر عربي من شهور السنة القمرية ولا تكتفي برؤية هلال رمضان وشوال وذي الحجة, وتقدم تقريرها إلى مفتي الديار الذي يلتزم بقرارات المجامع العلمية الشرعية.
وفي عام 1432هـ, رأت لجنة توشكى الهلال بوضوح, ثم رأت لجنة سوهاج نفس الهلال بوضوح, ولم تره اللجان الأخرى, وأعلن الديوان الملكي السعودي أن الهلال رئي في ثلاثة أماكن مختلفة بالمملكة العربية السعودية, وثبت بذلك أن يوم الثلاثاء الموافق 30 أغسطس سنة 2011م هو أول أيام شوال سنة 1432 هـ.
وقد يرى بعض الناس أن الدين ليس علما, وهذا إضلال مبين, فالدين علم ومبني على العلم, ولذلك ترى أحدهم يسأل لماذا يحتكر علماء الدين الأمر كله, أليس من حقنا أن نبدي ما نراه؟ ونقول له: لا ليس من حقك هذا, لأن الدين علم وهو يختلف عن التدين, وليس هناك في الدين أهواء بل هناك قواعد ومناهج نتعلمها على يد أهلها المختصين لنكون قادرين على تخريج الأحكام, ولم يشترطوا في التعلم جنسا ولا لونا ولا نوعا ولا شكلا, لقد أفهموك خطأ فسرت في ظلال أن التدين هو علم الدين.
وانتشار الشائعات في المجتمع ظاهرة خطيرة يجب مواجهتها والقضاء عليها في مهدها وهذا يتم بأمرين: الأول أن يؤخذ الخبر من أهله ذوي الاختصاص دون غيرهم إذا كان متعلقا بمسألة علمية, فالمرجعية والجماعة العلمية هي الملاذ الآمن من الشائعات والفتن, والثاني: من أبرز وسائل مواجهة الشائعات أيضا في عصرنا الحاضر وسائل الإعلام المختلفة التي يجب أن تخرج للناس بالأخبار الصحيحة المؤكدة حتى تقطع الطريق على مروجي الشائعات وتقي الناس من الوقوع في غوايتها وبراثنها, فالإعلام في الإسلام له دور بارز ومهم, من أجل الارتقاء بالأمة إلى مصاف الحضارات العظمي, فهو ليس إعلاما محضا بل هو صاحب رسالة سامية, كما أنه ليس مجرد ناقل للأحداث أو الأفكار من هنا وهناك, بل يقدم مادته صحيحة وصادقة وهادفة, خاصة عندما يتعلق الأمر بوأد الشائعات وإطفاء نار الفتن التي قد تشعلها.
ومن هنا ندعو المجتمع العربي والإسلامي إلى التعقل وعدم الانسياق وراء الشائعات, وإلى الترابط والتماسك ودحر الفتنة حتى لا يصل المغرضون إلى غايتهم بالوقيعة بين أبناء الوطن الواحد أو الأمة الواحدة.
خلق الله الإنسان واعتنى به، فأرسل إليه الرسل، وأنزل إليه الكتب، وشرع له الشرائع، تلك الشرائع التي تهدف إلى السمو بالإنسانية والرقي بها في أعلى درجات الكمال، ويترتب على الامتثال بها تطهير النفس البشرية من كل دنس، وشفاء القلب من كل مرض.
ويتأكد ذلك المعنى بجلاء في الزكاة حيث ينم اسمها على كل تلك المعاني العظيمة، فالزكاة في اللغة تعني : النماء، والزيادة، والطهر، والصلاح، وصفوة الشيء, وما أخرجته من مالك لتطهره به، وقد استعملها القرآن الكريم بمعنى الإنفاق في سبيل الله من المال، ومعنى الصلاح قال الله تعالى : (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف :81]. قال الفراء : أي صلاحا, وقال تعالى : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا) أي ما صلح منكم (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور :21] أي يصلح من يشاء.
والزكاة التي يخرجها المسلم من ماله يطهر بها نفسه تنقسم إلى قسمين؛ القسم الأول : زكاة المال، وهو مقدار يخرجه الإنسان من إجمالي ثروته بشروط معينة كحولان الحول، وبلوغ النصاب، ويخرج هذه المال إلى أصناف محددة من الناس كالفقراء والمساكين وغيرهم، وهي على أي مال سواء كان ذلك المال نقدي، أو ما يشبهه من ثروة حيوانية (الأنعام) أو ثروة زراعية (كغلال الحبوب) أو ثروة متداولة كالبضائع (عروض التجارة) فكل هذه الأصناف وغيرها مما قد نفرد لها حديثًا خاصًا يوضح أحكامها تفصيلاً تسمى زكاة مال.
والقسم الثاني من الزكاة : زكاة الفطر، والفطر : اسم مصدر من قولك : أفطر الصائم إفطارا . وأضيفت الزكاة إلى الفطر ; لأنه سبب وجوبها , وقيل لها فطرة , كأنها من الفطرة التي هي الخلقة. قال الشيرازي صاحب المهذب : ويقال للمخرج : فطرة - بكسر الفاء - لا غير , وهي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة , بل اصطلاحية للفقهاء , وكأنها من الفطرة التي هي الخلقة , أي زكاة الخلقة , وممن ذكر هذا صاحب " الحاوي ". [المجموع للنووي]
والمقصود بزكاة الفطر شرعا : صدقة تجب بالإفطار من رمضان -ويمكن أن تخرج قبل ذلك- بمقدار محدد على كل نفس، يخرجها العائل عن نفسه وعن من تلزمه نفقته، وتخرج للفقراء والمساكين وكذلك باقي الأصناف الثمانية التي ذكرهم الله في آية مصارف الزكاة، قال تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة :60].
حكمة زكاة الفطر :
وقد شرع الله زكاة الفطر لحكم عالية، وأغراض غالية، نذكر منها التكافل الاجتماعي، وتعميق روح الإخاء الإنساني بين أفراد المجتمع المسلم، فينبغي على المسلم الذي أغناه الله من فضله ألا ينسى أخاه الفقير، وأن يسعى على تهدئة نفسه، وراحة باله من سؤال الناس في ذلك اليوم، حتى يفرح في العيد هو ومن يعول مثلما يفرح أخوه الغني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أغنوهم في هذا اليوم عن السؤال) [البيهقي في الكبرى، والدراقطني في سننه]، فحث الدين الإسلامي على الرفق بالفقراء بإغنائهم عن السؤال في يوم العيد, وإدخال السرور عليهم في يوم يسر المسلمون بقدوم العيد عليهم, وتطهير من وجبت عليه بعد شهر الصوم من اللغو والرفث، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر, طهرة للصائم من اللغو والرفث, وطعمة للمساكين, من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة, ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) [أبو داود، والحاكم في المستدرك].
حكم زكاة الفطر :
واتفقت المذاهب الأربعة على وجوب زكاة الفطر على كل مسلم يقدر على إخراجها، إلا ما نقل في قول عن المالكية بأنها سنة، وقد ضعف هذا القول العلامة الدسوقي، ولا يشترط في القدرة على الإخراج ملك نصاب زكاة المال على ما ذهب إليه الجمهور، فمن ملك قوت يومه، وزاد عن ذلك مقدار الزكاة وجب عليه إخراجها وهي صاع من الحبوب من غالب قوت أهل البلد،. ومقدار ذلك الصاع يختلف باختلاف كثافة نوع الحبوب الذي يخرج منها الإنسان، فمثلاً صاع الأرز 2.400 كيلو جرام، أما في الدقيق فسيكون أقل وهكذا، ونرى في هذه الأيام أفضلية إخراج زكاة الفطر مالاً، وعلى ذلك فستتراوح قيمتها بين 8 إلى 10 جنيهات في أيامنا هذه.
الأفضل أن تخرج زكاة الفطر تخرج نقودًا :
وقد ذهبنا إلى القول بإخراج زكاة الفطر من النقود موافقة لمذهب طائفة من العلماء يعتد بهم، كما أنه مذهب جماعة من التابعين، منهم : الحسن البصري حيث روي عنه أنه قال: «لا بأس أن تعطي الدراهم في صدقة الفطر»، وأبو إسحاق السبيعي، فعن زهير قال : «سمعت أبا إسحاق يقول: «أدركتهم وهم يعطون في صدقة الفطر الدراهم بقيمة الطعام»، وعمر بن عبد العزيز، فعن وكيع عن قرة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر : «نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته: نصف درهم». وهو مذهب الثوري، وأبي حنيفة، وأبي يوسف.
وهو مذهب الحنفية، وبه العمل والفتوى عندهم في كل زكاة، وفي الكفارات، والنذر، والخراج، وغيرها. وهو أيضًا مذهب الإمام الناصر، والمؤيد بالله، من أئمة أهل البيت الزيدية. وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، إلا أنهما قيدا ذلك بالضرورة، كما هو مذهب بقية أهل البيت، أعني جواز القيمة عند الضرورة، وجعلوا منها : طلب الإمام المال بدل المنصوص.
وهو قول جماعة من المالكية كابن حبيب، وأصبغ، وابن أبي حازم، وابن دينار، وابن وهب، على ما يقتضيه إطلاق النفل عنهم في تجويز إخراج القيم في الزكاة، الشاملة لزكاة المال وزكاة الرؤوس، بخلاف ما نقلوه عن ابن القاسم وأشهب، من كونهما أجازا إخراج القيمة في الزكاة إلا زكاة الفطر وكفارة الأيمان. [راجع مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وبدائع الصنائع للكاساني، والسيل الجرار للشوكاني، والبحر الزخار لابن مرتضى].
كل هؤلاء العلماء ذهبوا إلى ذلك هذا في عصورهم القديمة وقد كان نظام المقايضة موجودًا، بمعنى أن كل السلع تصلح وسائل للتبادل وخاصة الحبوب، فكان يباع القمح بالشعير، والذرة بالقمح وهكذا، أما في عصرنا وقد انحصرت وسائل التبادل في النقود وحدها، فنرى أن هذا المذهب هو الأوقع والأرجح، بل نزعم أن من خالف من العلماء قديمًا لو أدرك زماننا لقال بقول أبي حنيفة، ويظهر لنا هذا من فقههم وقوة نظرهم.
كما أن إخراج زكاة الفطر نقودًا أولى للتيسير على الفقير أن يشتري أي شيء يريده في يوم العيد; لأنه قد لا يكون محتاجًا إلى الحبوب، بل هو محتاج إلى ملابس, أو لحم، أو غير ذلك، فإعطاؤه الحبوب يضطره إلى أن يطوف بالشوارع ليجد من يشتري منه الحبوب, وقد يبيعها بثمن بخس أقل من قيمتها الحقيقية، هذا كله في حالة اليسر, ووجود الحبوب بكثرة في الأسواق, أما في حالة الشدة وقلة الحبوب في الأسواق، فدفع العين أولى من القيمة مراعاة لمصلحة الفقير.
فضل زكاة الفطر :
ولزكاة الفطر فضل عظيم، وثواب جزيل، لا يعلمه إلا الله وقد أعلمنا الله ببعض ذلك الفضل والثواب، وذلك الفضل والثواب قد يكون لارتباط هذه العبادة الجليلة بعبادة صيام رمضان فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (سئل: أي الصوم أفضل ؟ فقال شعبان لتعظيم رمضان قيل : فأي الصدقة أفضل ؟ قال صدقة في رمضان) [رواه الترمذي] وزكاة الفطر صدقة تخرج في رمضان كما صح عن ابن عمر (أنه كان يؤديها قبل العيد بيوم أو يومين) [مسلم وأبو داود]. قال محمد بن مصطفى الخادمي : (ودفع القيمة أفضل من دفع العين على المذهب، ومن فضائلها : قبول الصوم، والفلاح، والنجاة من سكرات الموت، وعذاب القبر كذا عن المنية والسراجية) [بريقة محمودية].
ما ذكر قليل من كثير في شأن زكاة الفطر وما يتعلق بها من أحكام وحكم عالية وفضائل، نسأل الله أن يوفقنا لصالح الأعمال ابتغاء وجه الله، ويتقبل منا ما وفقنا فيه من أعمال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لم يكن شهر رمضان في الحضارة الإسلامية شهرا للعبادة والتقرب إلى الله تعالى فقط، بل كان شهرا للعمل والجهاد لنشر ذلك الدين العظيم، فحينما تقوى النفس وتسمو الروح يعود ذلك بالضرورة على الجسد فيقوى ويشتد، فما الجسد إلا مرآة للروح.
ولذلك شهد شهر رمضان على مدى التاريخ الإسلامي الفتوحات العظيمة التي كانت عاملا كبيرا في نشر الإسلام بسماحته وعدله في ربوع العالم، كما شهد رمضان الكثير من الأحداث التي سجلها التاريخ علامات فارقة في مسيرة الحضارة الإسلامية. ففي الثاني والعشرين من رمضان المبارك في العام الأول للهجرة كان بدء إرسال السرايا النبوية، ومنها سرية حمزة بن عبد المطلب وسرية محمد بن مسلمة وغيرها من السرايا التي ساعدت في دعم قواعد الدين الإسلامي الحنيف. حتى كان السابع عشر من رمضان في العام الثاني للهجرة، حيث كانت معركة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جحافل الباطل.
وفي سنة ثمان للهجرة فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة في الحادي والعشرين من رمضان، وكان هذا الفتح تتويجا لجهود النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة في الحادي والعشرين من رمضان، وكان هذا الفتح تتويجا لجهود النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله وإيذانا بسيادة الإسلام في شبه الجزيرة العربية، حيث دخل الناس على إثره في دين الله أفواجا. وفي الثامن من رمضان سنة تسع للهجرة كانت موقعة تبوك، وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الموقعة في السادس والعشرين من الشهر نفسه بعد أن أيده الله تعالى فيها تأييدا كبيرا. وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم استمر أصحابه رضي الله عنهم على نهجه في نشر الدعوة، وشهد شهر رمضان أيضا الكثير من الفتوحات الإسلامية العظيمة في أيامهم، ففي الثالث عشر من رمضان سنة خمس عشرة للهجرة وصل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى فلسطين بعد معارك ضارية لفتح بلاد الشام، وقد تسلم مفاتيح مدينة القدس وكتب لأهلها أمانا لأرواحهم وأموالهم، نسأل الله أن يردها سالمة للمسلمين.
وفي الأول من رمضان سنة عشرين للهجرة دخل المسلمون مصر على يد القائد عمرو بن العاص رضي الله عنه في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن اكتسح عمرو في طريقه جنود الروم الغاشمين.
وفي السادس من رمضان سنة ثلاث وستين من الهجرة انتصر محمد بن القاسم علي جيوش الهند عند نهر السند وتم فتح بلاد السند، وكان ذلك في آخر عهد الوليد بن عبد الملك.
وكان بدء فتح الأندلس أيضا في الأول من رمضان سنة إحدى وتسعين من الهجرة، فقد نزل المسلمون بقيادة طريف بن مالك البربري إلى الشاطئ الجنوبي لبلاد الأندلس وفتحوا بعض الثغور. وفي التاسع من رمضان سنة ثلاث وتسعين للهجرة قام القائد المسلم موسى بن نصير بحملة لاستكمال فتح الأندلس وتم فتح إشبيلية وطليطلة. وفي التاسع من رمضان سنة مائتين واثنتي عشرة نزل المسلمون على شواطئ جزيرة صقلية وفتحوها لينشروا الإسلام في ربوعها بقيادة زياد بن الأغلب. وفي شهر رمضان تحقق للمسلمين النصر على الدولة البيزنطية في معركة عمورية بقيادة الخليفة المعتصم العباسي الذي هب لنجدة إخوانه المسلمين حين استغاثوا به فحرك جيشا كبيرا لتأديب الدولة البيزنطية، وكان ذلك في السابع عشر من رمضان سنة223 هـ.
وفي الخامس والعشرين من رمضان سنة658 هـ نشبت معركة عين جالوت بقيادة المظفر سيف الدين، وكتب الله تعالى النصر للمسلمين فحققوا فوزا ساحقا أوقف زحف المغول وأنقذ الحضارة الإسلامية من الدمار. وكذلك كان أول نصر للمسلمين على الفرنجة في هذا الشهر الكريم، في السادس من رمضان عام532 هـ بقيادة عماد الدين زنكي شمال الشام بحلب.
وأما العاشر من رمضان فقد سجله التاريخ ليس كيوم نصر للمصريين فقط، بل كيوم نصر لجميع الأمة العربية والإسلامية، وسيظل يذكره كل عربي ومسلم على مدى الدهر، كان انتصار الجيش المصري على إسرائيل في حرب السادس من أكتوبر عام1973 م في معركة العبور، حيث عبر الجيش المصري قناة السويس مستعينا بالله واستعاد سيناء من المحتل الإسرائيلي، وقبل ذلك بمئات السنين وفي العاشر من رمضان أيضا سنة ستمائة وثمان وأربعين للهجرة الموافق الثاني عشر من ديسمبر سنة1250 م انتصر المصريون على لويس التاسع في معركة المنصورة، وقتل وأسر عدد كبير من جنوده.
وهكذا عرف شهر رمضان في التاريخ الإسلامي بشهر الفتوحات، ذلك الشهر الذي شاء الله تعالى أن ينتشر فيه نور الإسلام بأخلاقه وقيمه على العالمين.